5- إنها صداقة دامت ردحها على مدى حياة الصديقين دون أن تشوبها شائبة أو تعيبها عائبة، وهي قد إمتدت طويلاً حتى وافى الصابي الأجل قبل صديقه. ولم يفسح رجحان عقلي الصديقين المجال أمام أية محاولة للنيل من هذه الصداقة أو تعطيلها، فقد إمتدت متبادلة بروح سماحة وتبادل مجالسة ومخاطبة. فمع إنشغال الشريف الرضي تجده يتوق لمجالسة صديقه. وإن تأخر فما أجمل إعتذاره حين يقول: " إذا كانت القلوب، أطال الله بقاء سيدي الشيخ وأدام عزه وتأييده وسعادته ونعمته، تتناجى بالمِقة، والعيون تتلاحظ عن محض المودة والثقة، والباطن في الصفاء يُصّدق العالن، والخافي في الوفاء يحقق الظاهر، أُلغيت المعاذير بالعوائق التي تعوق عن المزاورة، والحواجز التي تحجز عن المواصلة، وأُعتمد على صفاء النيّات، وصحيح أديم الطويات. وكان الواحد منا في الزورة التي ينتهز فرصتها ويهتبل غرتها غير مشكور ولا محمود.. وهذه جملةٌ تنوب عن التفصيل، وقليل يكفي مؤونة التكثير، في العذر لتأخري عن حضرته، وقضاء ما يجب عليّ من حقه..".
وتتناغم إجابة الصابي لرسالة صديقه بمشاعر يفيض ماء رونقها وتتعطر الأجواء بعبيق رحيقها، وتحفظ لهما البلاغة حسن الصنعة بما يحق علينا أن نشيد في كل ما نقول ونعيد. يكتب الصابي:" وصلت رقعة سيدنا الشريف النقيب، بادئة بالفضل والتفضل، وسابقة الى الكرم والتطول، ولولا العلة التي قد أخذت بمخنقي وجثمت على مدارج نفسي، لما أخللت بقصد حضرته والمواظبة على خدمته، فالله سبحانه يعلم أن عيني ما تكتحل بغرة هي أعز عليّ من غرته، ولقد أهدى اليّ يوم تجشمه العناء الى داره التي أنا ساكنه فيها بمشاهدة ضياء وجهه ومناسمة شريف خلقه، تحفةً لا يكاد الزمان يسمح لي بمثلها، ولا يمكنني من إهتبال غرتها..".
6- عمق هذه الصداقة وتعدد أبعادها وشموليتها إدراكا بأنها مؤسسة على قيم الأصالة وشيم الصدق والعدالة وكانت دعائمها عديدة حتى في هموم الدنيا وجور الزمان فلا يتحرج الصابي من شكواه لصديقه ما فعل الزمان به حين يقول:
قد كنت أخطو فصرت أمطــــــو وزاد ضعفي فصرت أُعطـــــو
خانت عهودي يـدي ورجلـــــي فليس خطـــوٌ وليس خـــــــــطُ
هاتيك حالي فهــــــل لعـــــذري إذا تأخــرت عنـــــك بســـــــط
ويظل الصابي يتوق لرؤية صديقه حتى أيامه الأخيرة، إذ يذكر الثعالبي في يتيمة الدهر أن قصيدة أبا إسحق للشريف الرضي التي مطلعها " أبا كل شيء قيل في وصفه حسن.." بينها وبين وفاة الصابي إثنا عشر يوماً، ولعلها آخر أشعاره. وبهذا فإنه يختم بلاغته بمناجاة صديقه وفيها يقول:
أقيك الردئ ليس القِلى عنك مُقعــدي ولـــــكن دهانـــي بالزمـانـــة ذا الــزمن
فإن تنأ عنك الدار فالذكر مــا نــــاى وإن بان مني الشخــص فالشوق لم يبن
وإن طال عهـد الإلتقــــاء فــدونـــــه عهــود عليهـــا من رعــايتنـــا جُنــــــن
وبحقوق تلك الصداقة وإخائها، فإن أبا اسحق لا يتوانى، بعد أن أدرك قرب منيته، في أن يوصي الشريف الرضي بأهله وبنيه، وما ذاك الاّ إدراكا لإيفاء الرضي وصيانته لحقوق الصداقة وطيب العلاقة وأن يجد الصابي في صديقه أفضل الذخر الذي يذخره لخلفه فيوصيـــه:
هو الأجل المحـــتوم لي جَــد جِـدهُ وكــــان يــــــــُريني غفلــة المتـــواني
هنالك فاحفظ في بنــــيّ أذمتــــــي وذد عنهُـــم روعــات كـــــل زمـــــان
فإني أعتـــدّ المــودّة منــك لـــــــي حُسامــا بــه يقضون فــي الحــدثــــان
ذخرت لهــم منــك السجــايا وإنهـا لأَنفـــــــع مــــــــمّا يــذخر الأ بــــوان
وتجد الوصية كل القبول والإمتثال من قبل الشريف الرضي فيتعهد لصديقه الصابي ويقول:
وإنك ما إسترعيت مني سوى فتـىً ضمومٍ على رعي الأمــانة حـــان
حفيظٍ إذا ما ضيّــع المــرء قومـــه وفي ٍ إذا مــا خـــــُوّن العضــــدان
7- إنها صداقة وإن إنقطعت بين الإثنين بوفاة الصابي، فإن وصلها قد دام على حياة الشريف الرضي في عهده وتعهده لها. وهذا يؤكد ما ذهبنا اليه من إنها قائمة على خلوص السريرة وسمو الروح بالطباع الأميرة والحاجة للصديق الصدوق بديلاً عن عشيرة. ولا يبالي الشريف الرضي حين يرثي صديقه نثراً و يقول: ".. والى الله أشكو دهراً حال دونه وقطّع ما بيني وبينه، وأفردني عنه إفراد الأُم عن جنينها والشمال عن يمينها.. إن فقده أعرى ظهري على كثرة حُماتي وأنصاري، وأوحدني على أقاربي وعشائري..". وإذ نجد أن لا حاجة للشريف الرضي بأبي إسحق في صنعته أو بمركزه أو بنسبه أو بكثرة أتباعه؛ الاّ أن حاجة النفس الى الصفاء والنقاء وإقرار القدرات والإمكانات وتذوق الأصالة والإبتكار بل وإدراك أن الإثنين خانتهما الدنيا في أن يحتلا موقعهما المطلوب كل في سمو مكانته، كان كل ذلك وراء تقارب مبني على أسس مشتركة غير مادية. وخير ما يصف ذلك قول الشريف الرضي :" وبعد، فبيننا- يقصد هو والصابي- من مناسبة الخلائق ومشاكلة الطبائع، ثم من المودّة التي ألّفت بين شخصينا وضربت برواقها علينا، وما كنا نتهاداه من ألطاف الفضائل ونتشاراه من أعلاق المناقب ما يعذرني أن أفرط جزعي لفقده وإنكشف بالي من بعده..".
وحمداً لله إن وفاة الصابي كانت قبل وفاة صديقه ليُرزق الأدب بمرثية للشريف الرضي في صديقه يصفها الثعالبي بأنها " قصيدة فريدة أفصح بها بُعد شأوه في الشعر وعلو محله في كرم العهد، وقد تميزت بحسن ديباجتها وكثرة رونقها وجودة ألفاظها ومعانيها". وقد تـّوج الشريف الرضي بهذه القصيدة الصداقة التي ربطته بأبي إسحق فكانت بحق مأثرة تَغنّى بقيمها ومعانيها وألفاظها الكثيرون، ولا شك أن الجميع يذكر إستهلالها:
أعلمتَ مَن حمـــلوا على الأعــــــواد؟ أرأيت كـــيف خبــا ضياء النـادي؟
جبلٌ هـوى لو خــرَّ في البــر إغتـدى مـــــــن وقعــه متتــابع الأزبــــاد
هـــذا أبو إسحـــــــق يغلق رهنـــــــه هـــل ذائـــد أو مــانع أو فـــــــادي
إن الدمــوع عليــك غيـــر بخيلـــــــةٍ والقلب بالسلــــوان غيـــرُ جــــواد
ياليــت أني ما إقتنيــتك صـــاحبــــــاً كــم قنيــــةٍ جلبت أسـىً لفــــؤادي
بل ويؤكد الشريف الرضي لمن عتب عليه بمبالغة الرثاء بأن أبا إسحق" الأحق من كل أحد بقولي فيه في المرثية التي رثيته بها وهي من المراثي الأعيان والأشعارالأعلام":
ولقد كبــا طيفُ الرقــاد بناظــــــري أسفــاً علـــيك فـــلا لـَعــا لرُقــــادي
ثكلتك أرضٌ لــم تــلد لك ثانيـــــــــاً إنــــي ومثلــك معـــوز الميـــــــلاد
ضاقت عليّ الأرضُ بعـــدك كلـــها وتركتَ أضيقهـــا علـــيّ بـــــلادي
ولم تكن صداقة الشريف الرضي وأبو إسحق لتقف عند حد مرثية الأول الفاخرة، بل إن قيم الصداقة والعلاقة القائمة في القلب ظلت تحرك المشاعر فتفيض إرتجالاً. فها هو الشريف ينشد حين مر وإجتاز بقبر الصابي بمنطقة الجنينة من أرض كرخايا:
أيعـــــلم قــــبٌر بالجنينــة أنــنـــا أقمنا به ننعـى النَــدى والمعـــاليا
عطِفنا فحيينــا مساعيــه إنهـــــا عِظام المساعي لا العظام البوالـيا
نزلنا إليه عن ظهـور جيــادنــــا نكفكف بالأيدي الدمـوع الجواريا
أقول لركب رائحيـــن تعـرجـوا أُريكــم فيه فرعاً من المجد ذاويـا
ألا أيها القبــرُ الذي ضم لـــحده قضيباً على هام النوائب ماضيــا
هل إبن هلالٍ منذ أودى كعهدنـا هلالاً على ضوء المطـالع باقيــا؟
ويبقى الشريف الرضي يذكر صديقه بأحق الذكر، ويدلل على عمق الرابطة بالمشاعر النابضة. وحين يمر بعد عشر سنوات على قبر صديقه، ولا شك أنه دارس، فتثير فيه عهود الصداقة العواطف التي تفيض بداهة، وما أحلى ما ينشد:
لولا يذم الركبُ عندك موقفــــي حييتُ قــــبرك يا أبـــا أسحــــــق
كيف إشتياقك مُذ نأيت الــى أخ ٍ قلــق الضمـــير إلــيك بالأشــواق
أمضي وتعطفنـي اليـك نــوازع بتـــنفس ٍ كتـــــــنفس العشــــــاق
إن تمضِ فالمجد المُرجب خـالدٌ أو تـَفنَ فالكلــلمُ العِظــام بواقـــــي
لله درهما، فحلان من فحول الأدب، تلاقحت أصلاب قلميهما بالمودّة والصفاء، فضربا لنا أطيب المثل في معنى الصداقة والوفاء. تعلمنا منها دروس السماحة وكرم الود وذكر الفضل بما أوجب علينا- أحفاداً- أن نذكرالعهد بكل ما يُعتبر من حقوق تلك الصداقة بين الشريف الصديق والصديق الشريف، بمنحها ما تستحق من الإشادة قدر ما تمنحنا من أحاسيس الحب والفخر والسعادة.
المراجع
ـ الثعالبي، يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر.
ـ ديوان الشريف الرضي.
ـ نسخ رسائل النظم والنثر بين الشريف الرضي وأبو إسحق الصابي.