كراماته ومعجزاته وعلومه (ع) :
أما معجزاته (ع) وغرائب شأنه ، ومعالي أموره ، وأنباؤه بالمغيبات ، واخباره بجواب سؤال من أراد سؤاله (ع) قبل اظهاره ما في ضميره ، وما برز على لسانه الشريف من العلوم الغريبة والمحاجات الكثيرة في المواقع العديدة مع طوائف كثيرة ، حتى ادعن الأخصام بل حتى الأعداء بفضله ، وأرغمت معاطس المخالفين بعلو شأنه ، وذلت رقاب الجاحدين والحاسدين والمعاندين لسمو مقامه وعظيم براهينه وبليغ بياناته ، فلا يحتمل المقام ذكر شيئ للأسف منها ! . ولعمري لو لم يكن على إمامته وخلافته (ع) عن جده رسول الله (ص) دليل ولا برهان ، ولا عصمته وطهارته أولويته يشامخ مقام الولاية والوراثه عن آبائه المعصومين (ع) نص ولا بيان ، لكفى في اثبات كل ذلك ما ظهر منه (ع) من العلوم والحكم ، مضافاً إلى المعاجز غير المحصورة والفضائل المشهورة المذكورة في الكتب المشروحة ولعلك ترك قطرة من بحار علومه بمراجعة علومه في الكتب المعروفة .
ومن معجزاته الخارقة للعادة ، مارواه الشيخ الكليني (قدس) عن جماعة من أصحابنا ، عن بعض فصادي العسكر من النصارى : ان أبا محمد (ع) بعث إليه يوماً في وقت صلاة الظهر ، فقال : أفصد هذا العرق ، قال : فناولني عرقاً لم أفهمه من العروق التي تفصد ، فقلت في نفسي ما رأيت أمراً أعجب من هذا ، يأمرني ان أفصده في وقت الظهر وليس بوقت الفصد ، والثانية عرق لا افهمه . قال : ثم قال انظر وكن بالدار ، فلما امسى دعاني وقال لي : سرِّح الدم فسرحته ، ثم قال لي : أمسك ، فأمسكت ، ثم قال لي : كن في الدار ، فلما كان نصف الليل أرسل إليَّ ، فقال لي : سرَّح الدم ، فتعجبت أكثر من عجبي الأول ، فكرهت أن أسأله ، قال : فسرَّحتُ الدمَ ، فخرج دمٌ أبيض كأنه الملح ، قال : ثم قال لي اجلس فجلست وقال لي : كن في الدار . فلما أصبحت ، أمر قهرمانه أن يعطيني ثلاثة دنانير فاخذتها .
فخرجت حتى أتيت بختيشيوع النصراني فقصصتُ عليه القصة قال: فقال لي : ما أفهم ُ ما تقول ، ولا أعرفه في شيئ من الطب ، ولا قرأته في كتاب ، ولا أعلن في دهرنا أعلم بكتب النصرانية من فلان الفارسي ، فاخرج إليه ، قال : فاكتريت زورقاً إلى البصرة وأتيت الأهواز ، ثم صرت إلى فارس إلى صاحبي ، فأخبرته الخبر ، قال : فقال لي : أنظرني أياماً فانظرته ، ثم أتيت متقايضاً ، قال : فقال لي : إن هذا الذي تحكيه من أمر هذا الرجل فعله عيسى بن مريم (ع) في دهره مرة واحدة ، ولقد حسده الناس على هذا الفضل الباذخ والمقام الشامخ ، ولقد أخبر بذلك إلى أخيه جعفر الكذاب لمقابلة جعفر الصادق (ع) .
واضافة إلى معرفته لما في الضمائر ، تنقل المصادر روايات عجيبة عن إخباره بالمغيبات ، مثل اخباره شيعته قبل خلع المستعين بثلاثة أيام بواقعة خلعه بقوله : بعد ثلاث يأتيكم الفرج .
وبالجملة فمناقب هذا الحجة المعصوم وفضائل هذا الإمام المظلوم (ع) لا تنقص فضلاً عن اسلافه الطيبين الطاهرين وأجداده المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، ولا غرابة في ذلك فإن جميعهم من نور واحد ، وكلهم ثمرات الشجرة الطيبة النبوية ، وفروع الأغصان الزاكية العلوية ، ونتائج الأغراس الظاهرة الفاطمية ، على أولهم واخرهم صلوات رب البرية .
مواقف الإمام العسكري (ع) اتجاه أحداث عصره :
جاء الإمام العسكري (ع) إلى مقام الإمامة بعد أبيه بأمر الله تعالى ، وحسب ما أوصى به أجداده الكرام . وطوال مدة خلافته التي لا تتجاوز الست سنين ، كان ملازماً التقية ، وكان منعزلاً عن الناس حتى الشيعة ولم يسمح إلا للخواص من أصحابه بالأتصال ، ومع كل هذا ، فقد قضى زمناً طويلاً في السجون .
والسبب في كل هذا الأضطهاد هو :
أولاً : كان قد وصل عدد الشيعة إلى حد يلفت الأنظار ، وإن الشيعة تعترف بالإمامة ، وكان هذا الأمر واضحاً جلياً للعيان ، وإن أئمة الشيعة كانوا معروفين ، فكانت الحكومات أنذاك تتعرض للأئمة (ع) وتراقبهم وكانت تسعى للإطاحة بهم وإبادتهم بكل الوسائل الخفية .
ثانياً : اطلعلت الدولة العباسية على أن الخواص من الشيعة تعتقد أن للإمام الحادي عشر ولداً ، طبقاً للروايات الواردة عن الأئمة عن النبي (ص) ويعتبرونه الإمام الثاني عشر لهم .
لذلك يمكن تقسم مواقف الإمام العسكري (ع) تجاه الأحداث إلى أربعة مواقف :
الموقف الأول : موقفه من الحكم والحكام : فقد كانت سياسة العباسيين تجاه الأئمة (ع) من أيام الإمام الرضا (ع) وتلخصت بالحرص على دمج إمام أهل البيت وصهره في الجهاز الحاكم ، وضمان مراقبتهم الدائمة له ـ ومن ثم عزله عن قواعده ومواليه .
ولذا كان الإمام العسكري كوالده (ع) مجبراً على الإقامة في سامراء ، مكرهاً على الحضور لبلاط الخليفة كل يوم اثنين وخميس .
ولكن الإمام (ع) كآبائه في موقفه من الحكام ، وقف موقفاً حذراً ومحترساً في علاقته بالحكم ، دون أن يثير أي أهتمام أو أن يلقي بنفسه في أضواء الحكم وجهازه ، بل كانت علاقته بالحكم روتينية رتيبة ، تمسكاً بخط أبائه (ع) تجاه السلطة العباسية ، وقد أكسب هذا الموقف الإمام (ع) الأحترام والمنزلة الرفيعة أمام الحكام .
الموقف الثاني : موقفه (ع) من الحركة العلمية والتثقيف العقائدي :
وتمثلت مواقفه العلمية بردوده المفحمة للشبهات الإلحادية ـ وإظهاره للحق باسلوب الحوار والجدل الموضوعي والمناقشات العلمية ، وكان يردف هذا النشاط بنشاط آخر باصداره البيانات العلمية وتأليفه الكتب ونحو ذلك .
وهو بهذا الجهد يُموِّن الأمة العقائدية شخصيتها الرسالية والفكرية من ناحية ومقاومة التيارات الفكرية التي تشكل خطراً على الرسالة ، وضربها في بدايات تكوينها من ناحية أخرى وللإمام (ع) من علمه المحيط المستوعب ، ما يجعله قادراً على الأحساس بهذه البدايات وتقديراً أهميتها ومضاعفاتها والتخطيط للقضاء عليها .
ومن هنا جاء موقف الإمام العسكري (ع) واهتمامه وهو في المدينة المنورة بمشروع كتاب يضعه الكندي أبو يوسف يعقوب بن اسحاق " فيلسوف العراق في زمانه " ، حول متنافضات القرآن إذ اتصل عن طريق بعض المنتسبين إلى مدرسته واحبط المحاولة وأقنع مدرسة الكندي بأنها خطأ ، وجعله يتوب ويحرق أوراقه إلى غير ذلك .
الموقف الثالث : موقفه (ع) في مجال الإشراف على قواعده الشعبية وحماية وجودها وتنمية وعيها ، ومدها بكل أساليب الصمود والإرتفاع إلى مستوى الطليعة المؤمنة .
وكان يساعدهم اقتصادياً وإجتماعياً ، ويحذرهم ، وكان (ع) يأمر أصحابه بالصمت والكف عن النشاط ريثما تعود الأمور إلى مجاريها وتستتب الحوادث . وكانت تُجبى إليه (ع) أموال كثيره من الحقوق ، من مختلف المناطق الإسلامية التي تتواجد فيها قواعده الشعبية ، وذلك عن طريق وكلائه المنتشرين فيها ، وكان (ع) يحاول جاهداً وبأساليب مختلفة أن يخفي هذا الجانب إخفاءً تاماً على السلطة ، ويحيطه بالسرية التامة .
الموقف الرابع : موقفه (ع) من التمهيد للغيبة .
إن الإمام العسكري (ع) حين يعلم بكل وضوح تعلق الإرادة الإلهية بغيبة ولده من أجل إقامة دولة الله في أرضه وتطبيقها على الإنسانية أجمع ، والأخد بيد المستضعفين في الأرض ليبدل خوفهم أمناً 000 يعبدون الله لا يشركون به شيئاً .
يعرف أن عليه مسؤولية التمهيد لغيبة ولده ، وذلك لأن البشر إعتادوا الإدراك والمعرفة الحسية ، ومن الصعب على الإنسان المعتاد على المعرفة الحسية فقط أن يتجاوز إلى تفكير واسع .
ولم يكن مجتمع الإمام (ع) الذي عاصر مواقفه المنحرف وهبوط مستواه الفكري والروحي يسمو إلى عمق هذا الإيمان وسمو فكرته ، خاصة وأن غيبة الإمام حادث لا مثيل له في تاريخ الأمة .
والنصوص المتواترة الصحيحة عن النبي (ص) لها أثرها الكبير والفاعل في ترسيخ فكرة إنتظار المهدي (عج) في نفوس المسلمين بشكل عام ، وهذه الروايات عون للإمام العسكري (ع) لكي يقنع الناس بالإيمان بالغيبة من ناحية ، ويبرهن للناس تجسيد الغيبة في ولده المهدي من ناحية أخرى .
والأمر الأصعب الذي تحمل مسؤوليتة الإمام العسكري (ع) بصفته والداً للمهدي (ع) هو اقناع الناس بف\كرة حلول زظمان الغيب وتنفيدها في شخص ولده الإمام المهدي وهو أصعب بالنسبة للفرد العادي ، إذ انه سوف يفاجأ ويصدم إيمانه بفكرة الغيبة ، فإن هناك فرقاً كبيراً في منطق إيمان الفرد العادي بشكل مؤجل لا يكاد يحس الفرد بأثره في الحياة ، وبين الإيمان بالغيب مع الاعتقاد بتنفيده في زمان مغاير .
هذه الحقيقة ، كانت تلح على الإمام أن يبذل جهداً مضاعفاً لتخفيف وقع الصدمة وتذليلها ، وتهيئة أذهان الناس لاستقبالها دون رفض أو انكار ، وتعويد أصحابه وقواعده على الالتزام بها ، وخاصة أنه (ع) يريد تربية جيل واعٍ يكون النواة الأساسية لتربية الأجيال الأتية ، والتي ستبني بجهدها تاريخ الغيبتين ، الصغرى والكبرى .
اضف إلى ذلك أن الظروف والمعاناة التي عاشها الإمام العسكري (ع) ، من قبل الدولة ، وضرورة العمل والتبشير بفكر المهدي الموعود ، والتي كانت تعتبر في منطق الحكام ، أمراً مهدداً بكيانهم ، وخروجاً على سلطانهم .
لذا فقد اتجه نشاط الإمام العسكري (ع) في تحقيق هذا الهذف إلى ثلاث أعمال رئيسية ممهده لهذا الهذف :
العمل الأول : حجب الإمام المهدي (ع) عن اعين الناس مع إظهاره لبعض خاصيته.
العمل الثاني : تكثيف حملة توعية لفكرة الغيبة ، وافهام الناس بضرورة تحملهم لمسؤلياتهم الإسلامية وتعويدهم على متطلباتها ، وقد اتخد الإمام (ع) بتصدير بياناته وتعليماته عن المهدي ، كحلقة متسلسلة للنصوص التي بشر بها الرسول (ص) والإئمة (ع) من بعده ، وقد اتخذ الإمام العسكري (ع) في بياناته اشكالاً ثلاثة :
الشكل الأول : بيان عام ، كالتعرض لصفات المهدي (ع) بعد ظهوره وقيامه في دولته العالمية .
الشكل الثاني : توجيه النقد السياسي للأوضاع القائمة ، وذلك بقرنها بفكرة المهدي (عج) وضرورة تغييرها .
الشكل الثالث : توجيه عام لقواعده وأصحابه يوضح فيها (ع) لهم أبعاد فكرة الغيبة ، وضرورة التكيف لها من الناحية النفسية و الأجتماعية تمهيداً لما يعانونه من غيبة الإمام (ع) وانقطاعه عنهم .
العمل الثالث : اتخد الإمام العسكري (ع) موقفاً يمهد فيه للغيبة ، عندما احتجب بنفسه عن الناس ، إلا عن خاصة أصحابه ، وذلك باسلوب المكاتبات والتوقيعات ، ممهداً بذلك إلى نفس الأسلوب الذي سوف يسير عليه ابنه المهدي (ع) في غيبته الصغرى ، وهو في احتجابه وإيصاله للتعليمات .
وقد يبدو الأمر غريباً مفاجئاً للناس لو حدث هذا بدون مسبقات وممهدات كهذه . ولهذا كان هذا الأسلوب لتهيئة أذهان الأمة وتوعيتها ، لكي تتقبل هذا الأسلوب وتستسيغه دون استغراب ومضاعفات غير محمودة .
وكان نظام الوكلاء الذي اتبعه الإمام العسكري (ع) مع قواعده الشعبية كان اسلوباً أخراً من أساليب التمهيد لفكرة الغيبة .
وكذلك أيضاً فإن نظام الأحتجاب والوكلاء هو الأسلوب نفسه الذي يكون ساري المفعول في غيبة الإمام الصغرى ، بعد ان اعتاد الناس عليه في مسلك الإمامين العسكريين عليهما السلام ، وخاصة الإمام الحسن العسكري (ع) .
استشهاده عليه السلام :
لقد تعرض الإمام العسكري (ع) لما تعرض له أباؤه الأطهار (ع) من بطش الحكام وإئتمارهم لقتلهم ، بل ربما يزيد الإمام العسكري (ع) عن ابائه وأجداده (ع) تعرضاً للأذى ، لأن الحكام في عصره كانوا يتخوفون مما بلغهم من كون الحجة المهدي (ع) منه (ع) لذا حبسوه عدة مرات ، وحاولوا قتله فكان ينجو من محاولاتهم .
حتى جاء عهد المعتمد (لع) فتمكن من سم الإمام الحسن (ع) في السنة الخامسة من حكمه ، وقد سُقيَ (ع) ذلك السم في أول شهر ربيع الأول نت سنة ستين ومائتين ، وظل (ع) سبعة أيام يعالج حرارة السم ، حتى صار يوم الجمعة الثامن من شهر ربيع الأول من سنة ستين ومائتين ، حيث انتقل إلى جوار ربه ، في سامراء ، ولم يصل عمره الشريف إلى ثمانية وعشرين سنة .
وقد تعرض الإمام العسكري (ع) - فضلاً على أذايا العباسيين - للطامعين من الحاسدين ، وكان من أبرزهم أخوه جعفر ابن الإمام الهادي الذي اطلق عليه فيما بعد لقب " جعفر الكذاب " والذي كان على اتصال بالخلفاء
وفتش العباسيون ذار الإمام العسكري (ع) بعد استشهاده ، بتحريض من جعفر الكذاب ، للبحث عن الإمام المهدي (عج) .
وشنع جعفر الكذاب على اصحاب الإمام العسكري (ع) وعلى اتباعه قولهم بإمامة المهدي (عج) وهو ابن خمس سنوات ، وانتظارهم خروجه وظهوره بعد أخفاه أبوه ، بل شنع عليهم اعتقادهم بوجوده ، وانكر وجوده كله .
ولم يكتف جعفر الكذاب بما فعل بشان المهدي (ع) بل تملك تركة أخيه الإمام الحسن العسكري (ع) وادعى الإمامة بغير وجه حق ، وحاول حبس جواري وحلائل الإمام العسكري (ع) وأن يقوم مقامه في الشيعة ، فما استجابوا له وما تبعوه ، فلجأ للمعتمد ، يستمد منه العون على الوصول إلى أخيه ، وبذل له مالاً جزيلاً وتقرب إليه بكل ما يحتمل أن يقربه إليه ، ولكن المعتمد نهره وأبعده .
ولما استشهد الإمام العسكري (ع) ضجت لفقده " سر من رأى " ضجة عظيمة وحمل أهلها النعش المقدس ، بتجليل واهتمام بالغين ، فأراد جعفر الصلاة عليه لكن ذا الطلعة البهية هو الذي صللا عليه وجهزه ، ودفن (ع) في داره مع أبيه الهادي (ع) وراء ظهره .